فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (111):

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
الضمير في قصصهم عائد على الرسل، أو على يوسف وأبويه وإخوته، أو عليهم وعلى الرسل ثلاثة أقوال.
الأول: اختاره الزمخشري قال: وينصره قراءة من قرأ قصصهم بكسر القاف انتهى. ولا ينصره إذ قصص يوسف وأبيه وأخوته مشتمل على قصص كثيرة وأنباء مختلفة. والذي قرأ بكسر القاف هو أحمد بن جبير الانطاكي عن الكسائي، والقصبي عن عبد الوارث عن أبي عمر وجمع قصة. واختار ابن عطية الثالث، بل لم يذكره غيره. والعبرة الدلالة التي يعبر بها عن العلم. وإذا عاد الضمير على يوسف عليه السلام وأبويه وإخوته، فالاعتبار بقصصهم من وجوه إعزاز يوسف عليه السلام بعد إلقائه في الجب، وإعلاؤه بعد حبسه في السجن، وتملكه مصر بعد استعباده، واجتماعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد الفرقة الطويلة. والإخبار بهذا القصص إخباراً عن الغيب، والإعلام بالله تعالى من العلم والقدرة والتصرف في الأشياء على ما لا يخطر على بال ولا يجول في فكر. وإنما خص أولو الألباب لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر، ومن له لب وأجاد النظر، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان، علم أنه أمر من الله تعالى، ومن عنده تعالى. والظاهر أنّ اسم كان مضمر يعود على القصص أي: ما كان القصص حديثاً مختلفاً، بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب، ولا تتلمذ لأحد، ولا خالط العلماء، فمحال أن يفتري هذه القصة بحيث تطابق ما ورد في التوراة من غير تفاوت. وقيل: يعود على القرآن أي: ما كان القرآن الذي تضمن قصص يوسف عليه السلام وغيره حديثاً يختلق، ولكن كان تصديق الكتب المتقدمة الإلهية، وتفصيل كل شيء واقع ليوسف مع أبويه وإخوته إن كان الضمير عائداً على قصص يوسف، أو كل شيء مما حتاج إلى تفصيله في الشريعة إن عاد على القرآن. وقرأ حمران بن أعين، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح، وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية: تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي: ولكن هو تصديق، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي: ولكن تصديق أي: كان هو، أي الحديث ذا تصديق الذي بين يديه. وينشد قول ذي الرمة:
وما كان مالي من تراب ورثته ** ولا دية كانت ولا كسب ماثم

ولكن عطاء الله من كل رحلة ** إلى كل محجوب السوارق خضرم

بالرفع في عطاء ونصبه أي: ولكن هو عطاء الله، أو ولكن كان عطاء الله. ومثله قول لوط بن عبيد العائي اللص:
وإني بحمد الله لا مال مسلم ** أخذت ولا معطي اليمين محالف

ولكن عطاء الله من مال فاجر ** قصى المحل معور للمقارف

وهدى أي سبب هداية في الدنيا، ورحمة أي: سبب لحصول الرحمة في الآخرة. وخص المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى: {هدى للمتقين} وتقدم أول السورة قوله تعالى: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} وقوله تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص} وفي آخرها: ما كان حديثاً يفترى إلى آخره، فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن، وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم.

.سورة الرعد:

.تفسير الآيات (1- 2):

{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}
هذه السورة مكية في قول: الحسن، وعكرمة، وعطاء، وابن جبير. وعن عطاء إلا قوله: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} وعن غيره إلا قوله: {هو الذي يريكم البرق} إلى قوله: {له دعوة الحق} ومدنية في قوله: الكلبي، ومقاتل، وابن عباس، وقتادة، واستثنيا آيتين قالا: نزلتا بمكة وهما {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} إلى آخرهما وعن ابن عباس إلا قوله: {ولا يزال الذين كفروا} إلى آخر الآية وعن قتادة مكية إلا قوله: {ولا يزال الذين كفروا} الآية حكاه المهدوي. وقيل: السورة مدنية حكاه القاضي منذر بن سعد البلوطي ومكي بن أبي طالب.
قال الزمخشري: تلك إشارة إلى آيات السورة، والمراد بالكتاب السورة أي: تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها. وقال ابن عطية: من قال حروف أوائل السور مثال الحروف المعجم قال: الإشارة هنا بتلك هي إلى حروف المعجم، ويصح على هذا أنْ يكون الكتاب يراد به القرآن، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل. والمر على هذا ابتداء، وتلك ابتداء ثان، وآيات خبر الثاني، والجملة خبر الأول انتهى. ويكون الرابط اسم الإشارة وهو تلك. وقيل: الإشارة بتلك إلى ما قص عليه من أنباء الرسل المشار إليه بقوله: تلك من أنباء الغيب، والذي قال: ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل، هو قريب من قول مجاهد وقتادة، والإشارة بتلك إلى جميع كتب الله تعالى المنزلة. ويكون المعنى: تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك. والظاهر أن قوله: والذي مبتدأ، والحق خبره، ومن ربك متعلق بانزل. وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر، والحق مبتدأ محذوف، أو هو خبر بعد خبر، أو كلاهما خبر واحد انتهى. وهو إعراب متكلف. وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون والذي في موضع رفع عطفاً على آيات، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في موضع خفض. وعلى هذين الإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي: هو الحق، ويكون والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيء واحد كما تقول: جاءني الظريف العاقل وأنت تريد شخصاً واحداً. ومن ذلك قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهام ** وليث الكتيبة في المزدحم

وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني: إذا جعلت والذي معطوفاً على آيات.
وأكثر الناس قيل: كفار مكة لا يصدقون أن القرآن منزل من عند الله تعالى. وقيل: المراد به اليهود والنصارى، والأولى أنه عام. ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس، ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع. والجلالة مبتدأ، والذي هو الخبر بدليل قوله تعالى: {وهو الذي مد الأرض} ويجوز أن يكون صفة. وقوله: يدبر الأمر يفصل الآيات خبراً بعد خبر، وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور: عمد بفتحتين. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب: بضمتين، وبغير عمد في موضع الحال أي: خالية عن عمد. والضمير في ترونها عائد على السموات أي: تشاهدون السموات خالية عن عمد. واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاماً مستأنفاً، واحتمل أن يكون جملة حالية أي: رفعها مرئية لكم بغير عمد. وهي حال مقدرة، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين. وقيل: ضمير النصب في ترونها عائد على عمد أي: بغير عمد مرئية، فترونها صفة للعمد. ويدل على كونه صفة لعمد قراءة أبي: ترونه، فعاد الضمير مذكراً على لفظ عمد، إذ هو اسم جمع. قال أي ابن عطية: اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى. وهو وهم، وصوابه: بضم الحرفين، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع. هذا التخريج يحتمل وجهين: أحدهما أنها لها عمد، ولا ترى تلك العمد، وهذا ذهب إليه مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس: وما يدريك أنها بعمد لا ترى؟ وحكى بعضهم أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض، والسماء عليه كالقبة. والوجه الثاني: أن يكون نفي العمد، والمقصود نفي الرؤية عن العمد، فلا عمد ولا رؤية أي: لا عمد لها فترى. والجمهور على أن السموات لا عمد لها البتة، ولو كان لها عمد لاحتاجت تلك العمد إلى عمد، ويتسلسل الأمر، فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية. ألا ترى إلى قوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} ونحو هذا من الآيات. وقال أبو عبد الله الرازي: العماد ما يعتمد عليه، وهذه الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة الله تعالى، فعمدها قدرة الله تعالى، فلها عماد في الحقيقة. إلا أن تلك العمد إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز العالي، وأنتم لا ترون ذلك التدبير، ولا تعرفون كيفية ذلك الإمساك انتهى. وعن ابن عباس: ليست من دونها دعامة تدعمها، ولا فوقها علاقة تمسكها. وأبعد من ذهب إلى أنّ ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر أي: رها وانظروا هل لها من عمد؟ وتقدم تفسير {ثم استوى على العرش} قال ابن عطية: ثم هنا العطف الجمل لا للترتيب، لأنّ الاستواء على العرش قبل رفع السموات. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض» انتهى. وسخر الشمس والقمر أي: ذللهما لما يريد منهما. وقيل: لمنافع العباد. وعبر بالجريان عن السير الذي فيه سرعة، وكل مضافة في التقدير، والظاهر أنّ المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي: كليهما يجري إلى أجل مسمى.
وقال ابن عطية: والشمس والقمر في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب، ولذلك قال: كل يجري لأجل مسمى، أي: كل ما هو في معنى الشمس والقمر من المسخر، وكل لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة انتهى. وشرح كل بقوله أي: كل ما هو في معنى الشمس والقمر ما أخرج الشمس والقمر من ذكر جريانهما إلى أجل مسمى، وتحريره أن يقول على زعمه: إن الكواكب في ضمن ذكرهما أي، ومما هو في معناهما إلى أجل مسمى. وقال ابن عباس: منازل الشمس والقمر وهذ الحدود التي لا تتعداها، قدر لكل منهما سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء. وقيل: الأجل المسمى هو يوم القيامة، فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى: {إذا الشمس كورت} وقال: وجمع الشمس والقمر، ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه، وعبر بالتدبير تقريباً للإفهام، إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر، والأمر أمر ملكوته وربوبيته، وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك. وقال مجاهد: يدبر الأمر يقضيه وحده، ويفصل الآيات يجعلها فصولاً مبينة مميزاً بعضها من بعض. والآيات هنا دلائله وعلاماته في سمواته على وحدانيته، أو آيات الكتب المنزلة، أو آيات القرآن أقوال.
وقرأ النخعي، وأبو رزين، وابان بن ثعلب، عن قتادة: ندبر الأمر نفصل بالنون فيهما، وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما، وافق في نفصل بالنون الخفاف، وعبد الواحد عن أبي عمرو، وهبيرة عن حفص. وقال صاحب اللوامح: جاء عن الحسن والأعمش نفصل بالنون فقط. وقال المهدوي: لم يختلف في يدبر، أو ليس كما قال؟ إذ قد تقدمت قراءة ابان. ونقل الداني عن الحسن: والذي تقتضيه الفصاحة أن هاتين الجملتين استفهام إخبار عن الله تعالى. وقيل: يدبر حال من الضمير في وسخر، ونفصل حال من الضمير في يدبر، والخطاب في لعلكم للكفرة، وتوقنون بالجزاء أو بأنّ هذا المدبر والمفصل لابد لكم من الرجوع إليه.

.تفسير الآية رقم (3):

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}
لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية. ومد الأرض: بسطها طولاً وعرضاً ليمكن التصرف فيها، والاستقرار عليها. قيل: مدها ودحاها من مكة من تحت البيت، فذهبت كذا وكذا. وقيل: كانت مجتمعة عند بيت المقدس فقال لها: اذهبي كذا وكذا. قال ابن عطية: وقوله مد الأرض، يقتضي أنها بسيطة لا كرة، وهذا هو ظاهر الشريعة. قال أبو عبد الله الداراني: ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله: مد الأرض، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى. ألا ترى أنه قال: {والجبال أوتاداً} مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا. وأيضاً إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع. فتأويل مد الأرض أنه جعلها بمقدار معين، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لابد أن يكون بتخصيص مخصص، وتقدير مقدر، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى ملخصاً. وقال أبو بكر الأصم: المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه، فالمعنى: جعل الأرض حجماً يسيراً لا يقع البصر على منتهاه، فإن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به انتهى. وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غير مسلم، لأن المنتفع به من الأرض المعمور، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير. فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعاً، فتحصل في قوله: مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة، واختصاصها بمقدار معين وجعل حجمها كبيراً لا يرى منتهاه. والرواسي الثوابت، ومنه قول الشاعر:
به خالدات ما يرمن وهامد ** وأشعت أرسته الوليدة بالقهر

والمعنى: جبالاً رواسي، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث، إلا أنّ جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث. وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي، وصارت الصفة تغني عن الموصوف، فجمع جمع الإسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل. وقيل: رواسي جمع راسية، والهاء للمبالغة، وهو وصف الجبل. كانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم. قيل: من جهة أنّ طبيعة الأرض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لابد أن يكون بتخليق قادر حكيم، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل واحداً في الطبع، وتأثير الشمس واحد دليل على أنّ ذلك بتقدير قاد قاهر متعال عن مشابهة الممكنات، ومن جهة تولد الأنهار منها.
قيل: وذلك لأنّ الجبل جسم صلب، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتبس هناك، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية. وكقوله: {وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا} {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً} فقال المفسرون: الأنهار المياه الجارية في الأرض. وقال الكرماني: مسيل الماء، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة. والظاهر أنّ قوله: من كل الثمرات متعلق بجعل. ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين، يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك، ثم تكثرت وتنوعت. وقيل: أراد بالزوجين الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. وقال ابن عطية: وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية. وقال الكرماني: الزوج واحد، والزوج اثنان، ولهذا قيد ليعلم أنّ المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية، فيكون أربعاً. وخص اثنين بالذكر، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك لأنه الأقل، إذ لا نوع تنقص أصنافه عن اثنين انتهى. ويقال: إن في كل ثمرة ذكر وأنثى، وأشار إلى ذلك الفراء. وقال أبو عبد الله الرازي: لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط. فلو قال: خلق زوجين، لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص، فلما قال: اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد. فالشجر والزرع كبني آدم، حصل منهم كثرة، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهما آدم وحواء. والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض، وشق أعلاها وأسفلها، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة، ومن الأسفل العروق الغائصة، وطبيعة تلك الجنة واحدة، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد. ثم يخرج من الأعلى ما يذهب صعداً في الهواء، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم. ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشباً، وبعضها لوزاً، وبعضها ثمراً، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم انتهى. وفيه تلخيص. وقيل: تم الكلام عند قوله: ومن كل الثمرات، فيكون معطوفاً على ما قبله من عطف المفردات، ويتعلق بقوله: وجعل فيها رواسي. فالمعنى: أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين، وقيل: الزوجان الشمس والقمر، وقيل: الليل والنهار، يغشي الليل النهار تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها في الأعراف. وخص المتفكرين لأنّ ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر.